كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{فتعالى الله} في ذاته وصفاته عن مماثلة المخلوقين لا يماثل كلامه كلامهم كما لا تماثل ذاته وصفاته ذاتهم وصفاتهم {الملك} الذي لا يعجزه شيء، فلا ملك في الحقيقة غيره {الحق} أي: الثابت الملك، فلا زوال لكونه ملكًا في زمن ما، ولعظمة ملكه وحقية ذاته وصفاته صرف خلقه على ما هم عليه من الأمور المتباينة، ولما شرح الله تعالى كيفية نفع القرآن للمكلفين، وبيّن أنه سبحانه وتعالى متعالٍ عن كل ما لا ينبغي موصوف بالإحسان والرحمة، ومن كان كذلك صان رسوله عن السهو والنسيان في أمر الوحي، فلذلك قال تعالى: {ولا تعجل بالقرآن} أي: بقراءته {من قبل أن يقضى إليك وحيه} من الملك النازل به إليك من حضرتنا كما أنا لم نعجل بإنزاله عليك جملة بل رتلناه لك ترتيلًا، ونزلناه إليك تنزيلًا مفصلًا تفصيلًا، وموصلًا توصيلًا، فاستمع له ملقيًا جميع تأملك إليه، ولا تساوقه بالقراءة، فإذا فرغ فاقرأه، فإنا نجمعه في قلبك، ولا نكلفك المساوقة بتلاوته {وقل رب} أيها المحسن إليّ بإفاضة العلوم عليّ {زدني علمًا} أي: سل الله زيادة العلم بدل الاستعجال، فإن ما أوحي إليك تناله لا محالة؛ روى الترمذي عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم انفعني بما علمتني وعلمني ما ينفعني وزدني علمًا، والحمد لله على كل حال، وأعوذ بالله من حال أهل النار» وكان ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية قال: اللهم زدني علمًا ويقينًا، ولما قال تعالى: {كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق} طه.
ذكره هذه القصة إنجازًا للوعد، فقال تعالى: {ولقد عهدنا} بما لنا من العظمة {إلى آدم} أبي البشر أي: وصيناه أن لا يأكل من الشجرة، وإنما عطفها على قوله تعالى: {وصرفنا فيه من الوعيد} طه.
للدلالة على أن أساس بني آدم على العصيان، وعرقهم راسخ بالنسيان {من قبل} أي: في زمن من الأزمان الماضية قبل هؤلاء الذين تقدّم في هذه السورة ذكر نسيانهم وإعراضهم {فنسي} عهدنا، وأكل منها {ولم نجد له عزمًا} أي: تصميم رأي وثبات على الأمر؛ إذ لو كان ذا عزيمة وتصلب لم يزله الشيطان، ولم يستطع تغريره؛ قال البيضاوي: ولعل ذلك كان في بدء أمره قبل أن يجرب الأمور ويذوق أريها وشريها انتهى، والأري العسل، والشري: الحنظل؛ قال البغوي: قال أبو أمامة الباهلي: لو وزن حلم آدم بحلم ولده لرجح حلمه، وقد قال الله تعالى: {ولم نجد له عزمًا}، وقال البيضاوي: وعن النبي صلى الله عليه وسلم «لو وزنت أحلام بني آدم بحلم آدم لرجح حلمه»، وقد قال تعالى: ولم نجد له عزمًا، قال ابن الأثير: والحلم بالكسرة الأناة والتثبت في الأمور.
فإن قيل: ما المراد بالنسيان أجيب بأنه يجوز أن يراد بالنسيان الذي هو نقيض الذكر، وإنه لم يعنِ بالوصية العناية الصادقة، ولم يستوثق منها بقصد القلب عليها، وضبط النفس حتى تولد من ذلك النسيان، ولم يكن النسيان في ذلك الوقت مرفوعًا عن الإنسان بل كان يؤاخذ به، وإنما رفع عنا، وكان الحسن يقول: ما عصى أحد قط إلا بنسيان، وإن يراد الترك وأنه ترك ما أوصي به من الاحتراز عن الشجرة وأكل ثمرتها، وقيل: نسي عقوبة الله تعالى، وظن أنه نهي تنزيه.
تنبيه:
هذا هو المرّة الخامسة من قصة آدم في القرآن أولها في البقرة، ثم في الأعراف، ثم في الحجر، ثم في الكهف، ثم ههنا، وقوله تعالى: {وإذا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس} تقدَّم الكلام على ذلك مفصلًا في سورة البقرة، وقوله تعالى: {أبى} جملة مستأنفة؛ لأنها جواب سؤال مقدر؛ أي: ما منعه من السجود؟ فأجيب بأنه أبى، ومفعول الإباء يجوز أن يكون مرادًا، وقد صرح به في الآية الأخرى في قوله تعالى: {أبى أن يكون من الساجدين} الحجر، وحسن حذفه هنا كون العامل رأس فاصلة، ويجوز أن لا يراد أصلًا، وأنَّ المعنى أنه من أهل الإباء والعصيان من غير نظر إلى متعلق الإباء ما هو {فقلنا} بسبب امتناعه بعد أن حلمنا عليه ولم نعاجله بالعقوبة {يا آدم إنَّ هذا} الشيطان الذي تكبر عليك {عدوّ لك ولزوجك} حوَّاء بالمدّ لأنها منك، وسبب تلك العداوة من وجوه؛ الأول: أن إبليس كان حسودًا، فلما رأى آثار نعم الله في حق آدم حسده، فصار عدوًا له، الثاني: أن آدم عليه السلام كان شابًا عالمًا لقوله تعالى: {وعلم آدم الأسماء كلها} البقرة، وإبليس كان شيخًا جاهلًا؛ لأنه أثبت فضيلته بفضيلة أصله، وذلك جهل، والشيخ الجاهل أبدًا يكون عدوًا للشاب العالم، الثالث: أن إبليس مخلوق من النار، وآدم مخلوق من الماء والتراب، فبين أصليهما عداوة، فثبتت تلك العداوة فإن قيل: لمَ قال تعالى: {فلا يخرجنكما من الجنة} مع أن المخرج لهما منها هو الله تعالى؟
أجيب بأنه لما كان هو الذي فعل بوسوسته ما ترتب عليه الخروج صح ذلك فإن قيل: لمَ قال تعالى: {فتشقى} أي: فتتعب وتنصب في الدنيا، ولم يقل: فتشقيا؟
أجيب بوجهين؛ أحدهما: أن في ضمن شقاء الرجل وهو قيّم أهله وأميرهم شقاءهم كما أن في ضمن سعادته سعادتهم، فاختص الكلام بإسناده إليه دونها مع المحافظة على كونه رأس فاصلة، وعن سفيان بن عيينة قال: لم يقل فتشقيا؛ لأنها داخلة معه، فوقع المعنى عليهما جميعًا وعلى أولادهما جميعًا كقوله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء} الطلاق، و{يا أيها النبي لم تحرِّم ما أحل الله لك قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} التحريم، فدخلوا في المعنى معه، وإنما كلم النبي وحده، الثاني: أريد بالشقاء التعب في طلب القوت، وذلك على الرجل دون المرأة؛ لأن الرجل هو الساعي على زوجته، روي أنه أهبط إلى آدم ثور أحمر، فكان يحرث عليه ويمسح العرق عن جبينه ويحتاج بعد الحرث إلى الحصد والطحن والخبز وغير ذلك مما يحتاج إليه، وعن الحسن قال: عنى به شقاء الدنيا، فلا تلقى ابن آدم إلا شقيًا ناصبًا أي: ولو أراد شقاوة الآخرة ما دخل الجنة بعد ذلك، ولما كان الشبع والريّ والكسوة والمكن هي الأمور التي يدور عليها كفاف الناس ذكر الله تعالى حصول هذه الأشياء في الجنة من غير حاجة إلى الكسب والطلب، وذكرها بلفظ النفي لأضدادها بقوله تعالى: {إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى}.
{وإنك لا تظمأ} أي: تعطش {فيها ولا تضحى} أي: لا يحصل لك حر شمس الضحى لانتفاء الشمس في الجنة بل أهلها في ظل ممدود وهذه الأشياء كأنها تفسير للشقاء المذكور في قوله تعالى: فتشقى.
{فوسوس} أي: فتعقب تحذيرنا هذا من غير بعد في زمان أن وسوس {إليه الشيطان} المحترق المطرود وهو إبليس أي: أنهى إليه الوسوسة، وأما وسوس له، فمعناه لأجله، فلذلك عدي تارة باللام في قوله تعالى: {فوسوس لهما} الأعراف، وتارة بإلى، ثم بيّن تعالى تلك الوسوسة ما هي بقوله تعالى: {قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد} أي: على الشجرة التي إن أكلت منها بقيت مخلدًا {وملك لا يبلى} أي: لا يبيد ولا يفنى، قال الرازي: واقعة آدم عجيبة، وذلك لأن الله تعالى رغبه في دوام الراحة وانتظام المعيشة بقوله تعالى: {فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى}، ورغبة إبليس أيضًا في دوام الراحة بقوله تعالى: هل أدلك على شجرة الخلد وفي انتظام المعيشة بقوله، وملك لا يبلى، فكان الشيء الذي رغب الله تعالى فيه آدم هو الذي رغبه إبليس فيه إلا أن الله تعالى وقف ذلك الأمر على الاحتراس عن تلك الشجرة، وإبليس وقفه على الإقدام عليها، ثم إن آدم عليه السلام مع كمال عقله وعلمه بأن الله مولاه وناصره ومربيه وعلمه بأن إبليس عدوّه حيث امتنع من السجود له وعرض نفسه للعنة بسبب عداوته كيف قبل في الواقعة الواحدة، والمقصود الواحد قول إبليس مع علمه بعداوته له، وأعرض عن قول الله تعالى مع علمه بأنه الناصر له والمربي، ومن تأمل هذا الباب طال تعجبه، وعرف آخر الأمر أن هذه القصة كالتنبيه على أنه لا دافع لقضاء الله، ولا مانع له منه، وأن الدليل وإن كان في غاية الظهور ونهاية القوة، فإنه لا يحصل النفع به إلا إذا قضى الله ذلك وقدَّره انتهى.
ويدل على ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح روى البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «احتج آدم وموسى عند ربهما، فحج آدم موسى، قال موسى أنت آدم الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وأسكنك في جنته، ثم أهبطت الناس بخطيئتك إلى الأرض، فقال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه، وأعطاك الألواح فيها بيان كل شيء، وقرّبك نجيًا فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن يخلقني؛ قال موسى: بأربعين عامًا قال آدم: فهل وجدت فيها وعصى آدم ربه فغوى قال: نعم، قال: أفتلومني على أن عملت عملًا كتب الله على أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فحج آدم موسى»، وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة قال: وعرشه على الماء، وقال: كل شيء بقدر حتى العجز والكيس»، ثم كأن إبليس قال لآدم بلسان الحال أو المقال مشيرًا إلى الشجرة التي نهي عنها ما بينك وبين الملك الدائم إلا أن تأكل منها {فأكلا} أي: فتسبب عن قوله وتعقب أن أكل {منها} هو وزوجته متبعين لقوله ناسين ما عهد إليهما لأمر قدّره الله في الأزل {فبدت لها سوآتهما} قال ابن عباس عريًا من النور الذي كان الله ألبسهما حتى بدت فروجهما، وإنما جمع سوآتهما كما قال: صغت قلوبكما، أي: فظهر لكل منهما قبله وقبل الآخر ودبره، وسمى كل منهما سوأة؛ لأن انكشافه يسوء صاحبه {وطفقا يخصفان} أي: أخذا يلزقان {عليهما من ورق الجنة} ليستترا به، قال ابن عادل: وهو ورق التين {وعصى آدم} بالأكل من الشجرة، وإن كان إنما فعل المنهي نسيانًا لأن عظم مقامه وعلو رتبته يقتضيان له مزيد الاعتناء، ودوام المراقبة {ربه} المحسن إليه بما لم ينله أحد من بنيه من تصويره له بيده، وإسجاد ملائكته له، ومعاداة من عاداه {فغوى} أي: فعل ما لم يكن له فعله، وقيل: أخطأ طريق الحق، وقيل: حيث طلب الخلد بأكل ما نهى عنه، فخاب، ولم ينل مراده وصار من العز إلى الذل، ومن الراحة إلى التعب؛ قال ابن قتيبة: يجوز أن يقال: عصى آدم، ولا يجوز أن يقال: آدم عاص؛ لأنه إنما يقال: عاص لمن اعتاد فعل المعصية كالرجل يخيط ثوبه، فيقال: خاط ثوبه، ولا يقال: هو خياط حتى يعاوده ويعتاده.
تنبيه:
تمسك بعضهم بقوله تعالى: وعصى آدم ربه فغوى في صدور الكبيرة عنه من وجهين؛ الأول: أن العاصي اسم للذم، فلا ينطلق إلا على صاحب الكبيرة لقوله تعالى: {ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدًا فيها} الجن، ولا معنى لصاحب الكبيرة إلا من فعل فعلًا يعاقب عليه، الثاني: أن الغواية والضلالة اسمان مترادفان، والغي ضد الرشاد، ومثل هذا لا يتناول إلا الفاسق المنهمك في فسقه، وأجيب: بأن المعصية مخالفة الأمر، والأمر قد يكون بالواجب وقد يكون بالمندوب، فإنك تقول: أمرته فعصاني، وأمرته بشرب الدواء فعصاني، وإذا كان كذلك لم يمتنع إطلاق اسم العصيان على آدم بكونه للمندوب، وإن كان وصف تارك المندوب بأنه عاص مجاز، وأجاب أبو مسلم الأصبهاني بأنه عصى في مصالح الدنيا لا فيما يتصل بالتكاليف، وكذا القول في غوى؛ قال الرازي: والأولى عندي في هذا الباب أن يقال: هذه الواقعة كانت قبل النبوَّة، وقد تقدم شرح ذلك في البقرة، وقيل: بل أكل من الشجرة متأولًا، وهو لا يعلم أنَّ الشجرة التي نهى الله عنها شجرة مخصوصة لا على الجنس، ولهذا قيل: إنما كانت التوبة من ترك التحفظ لا من المخالفة، فهو كما قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين أي: يرونها بالإضافة إلى علو أحوالهم كالسيئات.
{ثم اجتباه ربه} أي: اختاره واصطفاه {فتاب عليه} أي: قبل توبته، وأعاد عليه بالعفو والمغفرة {وهدى} أي: هداه لرشده حتى رجع إلى الندم والاستغفار، ولما كانت دار الملوك لا تحتمل مثل ذلك وإن كان قد هيأه بالاجتباء لها قال على طريق الاستئناف.
{قال} الرب سبحانه وتعالى: الذي انتهكت حرمة داره {اهبطا} أي: آدم وحواء بما اشتملتما عليه من ذريتكما {منها} أي: الجنة {جميعًا} وقيل: الخطاب لآدم ومعه ذريته، ولإبليس، فقوله تعالى: {بعضكم لبعض عدوٌّ} يكون على التفسير الأول بعض الذرية لبعض عدوٌّ من ظلم بعضهم لبعض، وعلى الثاني آدم وذريته، وإبليس وذريته، وقوله تعالى: {فإما} فيه إدغام نون أن الشرطية في ما المزيدة {يأتينكم مني هدى} أي: كتاب ورسول {فمن اتبع هداي} الذي أسعفته به من أوامر الكتاب والرسول {فلا يضل} أي: بعد ذلك عن طريق السداد في الدنيا {ولا يشقى} في الآخرة؛ قال ابن عباس: من قرأ القرآن، واتبع ما فيه هداه الله تعالى من الضلالة، ووقاه الله تعالى يوم القيامة سوء الحساب، وذلك أن الله تعالى يقول: فمن اتبع هداي، فلا يضل ولا يشقى، ولما وعد تعالى من اتبع الهدى أتبعه بوعيد من أعرض فقال تعالى: {ومن أعرض عن ذكري} أي: عن القرآن، فلم يؤمن به ولم يتبعه {فإن له معيشة ضنكًا} والضنك أصله الضيق والشدة، وهو مصدر، فكأنه قال: له معيشة ذات ضنك، واختلف في ذلك، فقال أبو هريرة وأبو سعيد الخدري وابن مسعود: المراد بالمعيشة الضنك عذاب القبر، وروى أبو هريرة أنَّ عذاب القبر للكافر، قال: قال صلى الله عليه وسلم «والذي نفسي بيده ليسلط عليه في قبره تسعة وتسعون تنينًا هل تدرون ما التنين؟ تسعة وتسعون حية لكل حية تسعة رؤوس يخدشونه ويلسعونه، وينفخون في جسمه إلى يوم يبعثون»، وقال الحسن وقتادة والكلبي: هو الضيق في الآخرة في جهنم، فإنّ طعامهم الضريع والزقوم، وشرابهم الحميم والغسلين، فلا يموتون فيها ولا يحيون، وقال ابن عباس: المعيشة الضنك هي أن يضيق عليه أبواب الخير فلا يهتدي لشيء منها، وعن عطاء: المعيشة الضنك هي معيشة الكافر؛ لأنه غير موقن بالثواب والعقاب، وروي عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «عقوبة المعصية ثلاثة؛ ضيق المعيشة والعسر في الشدة، وأن لا يتوصل إلى قوته إلا بمعصية الله»، وذلك أن مع الدين التسليم والقناعة والتوكل على الله تعالى، وعلى قسمته، فهو ينفق ما رزقه الله تعالى بسماح وسهولة، فيعيش عيشًا رفيعًا كما قال الله تعالى: {فلنحيينه حياة طيبة} النحل، والمعرض عن الدين مستول عليه الحرص الذي لا يزال يطمح به إلى الازدياد من الدنيا مسلط عليه الشح الذي يقبض يده عن الانفاق فعيشه ضنك، وحاله مظلمة، قال صلى الله عليه وسلم «لو كان لابن آدم وادٍ من ذهب لابتغى إليه ثانيًا، ولو كان له واديان لابتغى لهما ثالثًا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب» متفق عليه. قال بعض الصوفية: لا يعرض أحد عن ذكر ربه إلا أظلم عليه وقته، وتشوش عليه رزقه، وقال تعالى: {استغفروا ربكم إنه كان غفارًا يرسل السماء عليكم مدرارًا} [نوح: 11].
الآية، وقال تعالى: {وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقًا} الجن.
ثم ذكر حال المعرض في الآخرة بقوله تعالى: {ونحشره يوم القيامة أعمى} قال ابن عباس: إذا خرج من القبر خرج بصيرًا، فإذا سيق إلى المحشر عمي، ولعله جمع بذلك بين هذا وبين قوله تعالى: {أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا} مريم، وقال عكرمة: عمي عليه كل شيء إلا جهنم، وفي لفظ قال: لا يبصر إلا النار، وعن مجاهد المراد بالعمى عدم الحجة، ويؤيد الأول قوله تعالى: {قال رب لم حشرتني أعمى} في هذا اليوم؟ {وقد كنت بصيرًا} أي: في الدنيا، أو في أول هذا اليوم، فكأنه قيل: بما أجيب؟ فقيل:
{قال} له ربه {كذلك} أي: مثل ذلك فعلت، ثم فسره، فقال: {أتتك آياتنا} واضحة نيرة {فنسيتها} فعميت عنها، وتركتها غير منظور إليها {وكذلك} أي: ومثل تركك إياها {اليوم تنسى} أي: تترك في العمى والعذاب.
{وكذلك} أي: ومثل هذا الجزاء الشديد {نجزي من أسرف} في متابعة هواه، فتكبر عن متابعة أوامرنا {ولم يؤمن} بل كذب {بآيات ربه} وخالفها {ولعذاب الآخرة أشدّ} مما نعذبهم به في الدنيا والقبر لعظمه {وأبقى} فإنه غير منقطع. ولما بيّن الله تعالى أنَّ من أعرض عن ذكره كيف يحشر يوم القيامة اتبعه بما يعتبر به المكلف من الأفعال الواقعة في الدنيا ممن كذب الرسل، فقال: أي: يبين بيانًا يقود إلى المقصود {لهم} أي: هؤلاء الذين أرسلت إليهم أعظم رسلي، وفاعل يهد مضمون قوله: {كم أهلكنا} وقال أبو البقاء: الفاعل ما دل عليه أهلكنا أي: إهلاكنا، والجملة مفسرة له، وقال الزمخشري: فاعل لم يهد الجملة بعده يريد: ألم يهدلهم هذا بمعناه ومضمونه، ونظيره قوله تعالى: {وتركنا عليه في الآخرين سلام على نوح في العالمين} [الصافات: 79]، أي: تركنا عليه هذا الكلام، ويجوز أن يكون فيه ضمير الله أو الرسول انتهى. وكم خبرية مفعول أهلكنا {قبلهم من القرون} أي: بتكذيبهم لرسلنا حال كونهم {يمشون} أي: هؤلاء العرب من أهل مكة وغيرهم {في مساكنهم} أي: في سفرهم إلى الشام، ويشاهدون آثار هلاكهم {إن في ذلك} أي: الإهلاك العظيم الشأن المتوالي في كل أمة {لآيات} عظيمات بينات {لأولي النهى} أي: لذوي العقول الناهية عن التغافل والتعامي. ولما هددهم بإهلاك الماضين ذكر سبب التأخير عنهم بقوله تعالى: {ولولا كلمة} أي: عظيمة قاضية نافذة {سبقت} أي: في أزل الآزال {من ربك} الذي عودك بالإحسان بتأخير العذاب عنهم إلى الآخرة فإنه يعامل بالحلم والأناة {لكان} أي: العذاب {لزامًا} أي: لازمًا أعظم لزوم لهم في الدنيا مثل ما نزل بعاد وثمود، ولكن نمدُّ لهم لنرد من شئنا منهم، ونخرج من أصلاب بعضهم من يؤمن، وإنما فعلنا ذلك إكرامًا لك ورحمة لأمتك، فيكثر أتباعك، فيعملوا الخيرات، فيكون ذلك زيادة في شرفك، وإلى ذلك الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم «وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا»، وفي رفع قوله تعالى: {وأجل مسمى} وجهان؛ أظهرهما: عطفه على كلمة أي، ولولا أجل مسمى لكان العذاب لازمًا لهم، وهذا ما صدَّر به البيضاوي، والثاني: أنه معطوف على الضمير المستتر في كان، وقام الفصل بخبرها مقام التأكيد، واقتصر الجلال المحلي على هذا، وجوَّزه الزمخشري والبيضاوي، وفي هذا الأجل المسمى قولان؛ أحدهما: ولولا أجل مسمى في الدنيا لذلك العذاب، وهو يوم بدر، والثاني: ولولا أجل مسمى في الآخرة لذلك العذاب، وهذا كما قال الرازي أقرب قال أهل السنة تعالى بحكم المالكية أن يخص من شاء بفضله، ومن شاء بعذابه من غير علة إذ لو كان فعله لعلة لكانت تلك العلة إما قديمة، فيلزم قدم الفعل، وإما حادثة، فيلزم افتقارها إلى علة أخرى، ويلزم التسلسل، ثم إنه تعالى لما أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم بأنه لا يهلك أحدًا قبل استيفاء أجله أمره بالصبر، فقال: {فاصبر على ما يقولون} لك من الاستهزاء وغيره، وهذا كان أول الأمر، ثم نسخ بآية القتال {وسبح} أي: صل، وقوله تعالى: {بحمد ربك} حال أي: وأنت حامد لربك على أنه وفقك لذلك، وأعانك عليه {قبل طلوع الشمس} صلاة الصبح {وقبل غروبها} صلاة العصر {ومن أناء الليل} أي: ساعاته {فسبح} أي: صل المغرب والعشاء، وقوله تعالى: {وأطراف النهار} معطوف على محل من آناء المنصوب أي: صل الظهر؛ لأن وقتها يدخل بزوال الشمس، فهو طرف النصف الأول، وطرف النصف الثاني قال ابن عباس: دخلت الصلوات الخمس في ذلك، وقيل: المراد الصلوات الخمس والنوافل؛ لأن الزمان إما أن يكون قبل طلوع الشمس أو قبل غروبها، فالليل والنهار داخلان في هاتين العبارتين.